عقدة الخواجة والتصوير الفوري
قبل بضعة أيام روى لي أحد أصدقائي قصةً غريبةً، توقفت عندها طويلاً، لما لها من دلالات مهمة حول الأفكار النمطية والأحكام المُسبقة التي يحملها بعض الناس تجاه العرقيات الأخرى. فهذه القِصص تكشف الكثير، لأنها في العادة تبقى هذه الأفكار كامنةً في اللاوعي، وتظل بالتالي مستعصيةً على النقد والتحليل. ومما لا يخفى على القارئ التأثير البالغ لهذه الأفكار على النظرة إلى قيمة الآخر وبالتالي التعامل معه. فمن المعروف مثلاً أنه في بعض الدول جرت العادة على إضافة شخص أوروبي إلى طاقم العلاقات العامة في بعض الشركات، لما لذلك من أثر في ترك انطباع جيد لدى بعض الزبائن؛ أي أن العُملاء المحتملين يولون الأوروبي اهتماماً أكبر من الآسيوي. وفي دول أُخرى، قد يكون كونُك أوروبياً الضمانةً الوحيدة للحصول على الاحترام والتقدير، فقد لاحظت في إيران مثلاً أن السياح الأمريكيين (المكروهين رسمياً) يحصلون على كمية غير قليلة من الاعتبار والتبجيل من قبل الناس المحليين (على عكس العرب، بالرغم من حصولنا على استقبال أفضل في تركيا، على الأقل.) وحتى في السينما، نرى أنه في فيلم الرُعب الأمريكي “هوستل” (2005)، (والتي تجري حبكته على خلفية جمعية سرية تختطف الشباب وتعذبهم حتى الموت من أجل المتعة)، فإن الأمريكيين يُباعون بأغلى الأثمان من أجل التعذيب، يتبعهم في ذلك الأوروبيون واليابانيون. أما باقي الجنسيات فتأتي في أسفل قائمة الأسعار.
ولكي لا أطنب: فإن محدثي الذي روى لي القصة كان بصدد إكمال إجراء في أحد الأقسام الحكومية. وفي البحر المتلاطم للبيروقراطية، ومتاهة الأختام والتوقيعات، نسي صاحبنا أن يجلب معه الصور الشخصية (أو “الشمسية” كما يسميها البعض). من العجب أنه في كل مرة نتعامل مع هذه الأقسام، فإنه يُطلب منا إحضار صور شخصية وإكمال استمارات طويلة من معلوماتنا الخاصة، رُغم إنه من شبه المؤكد أن قواعد البيانات تحتوي كل هذه المعلومات وأكثر، وهي حقيقة باتت واقعاً ملموساً في عصرنا أكثر من أي وقت مضى. على كلِ، فإن صديقي الذي ضايقه الوقت، خرج في المنطقة يبحث عن أقرب محل تصوير. وبعد قسط من البحث، وجد في أحد المجمعات محلاً للتصوير يَعِد الزبائن بتقديم خدمة “كوداك للصُوَر الفورية”. وعند دخوله المتجر، وجد صديقي البائع (والذي يقوم أيضاً بدور المصور) الهندي الجنسية، يأكل البسكويت الصباحي ويرشف من كأس شاي يتدلى منه خيط طويل علي طرفه مربع ورقي أصفر. أقدم صاحب الرواية على سؤال البائع عن أسعار الصور، وفترة إعدادها، وما إلى ذلك. ولكن البائع الذي كان مندمجاً اندماجاً تامّاً في إفطاره، بالكاد أعار صاحبنا أي اهتمام، رغم كونه زبوناً جاداً، ورغم الحكمة اليابانية التي مفادها أن “الزبون هو السيد دائماً”.
“صورة فورية لازم 20 دقيقة”، قال البائع، وهو “يتكلم من وراء خشمه” (كما نقول بالعامية)، ومناقضاً نفسه كذلك، فكيف بصورة فورية أن تستغرق عشرين دقيقة؟ ولكن صديقي استمر في الكلام والمساءلة، وإذا بالبائع رفع رأسه، ناظراً في صديقنا بإمعان، مولياً إياه جُل اهتمامه: “هل سبق لك أن عشت في الخارج يا سيدي؟” قال الآسيوي سائلاً. صاحب الرواية، والذي تفاجأ قليلاً بهذا السؤال، رد مازحاً، “نعم، فقد وُلدت في الولايات المتحدة”، بالرغم من أنه لم يولد في أمريكا، بل أنه عاش هناك في فترة طفولته. “ولكن لماذا تسأل؟” قال صديقي. “إنها لكنتك، سير” قال البائع. وبالمناسبة، فإن لكنة صديقي ليست مثالية، ولكنه لما كان ساكناً في الخارج لجزءٍ كبير من طفولته، تأثر كثيراً باللكنات الأصلية، وبات لا يتحدث الإنكليزية كما يتحدثها أغلب سكان دول العربية، أي بلكنة خشنة نسبياً.
ويبدو أن البائع كان معتاداً على استقبال الغربيين في متجره، حيث أن المتجر كان يطل على شارع مليء بالمطاعم الأمريكية، بالإضافة إلى وجود عدد كبير من الأمريكيين المقيمين في المنطقة. ولذلك كان قد تعود صاحب المتجر على اللكنات غير المحلية، والتي تدل على منشأ أجنبي. وفي كل الأحوال، فقد تغير تصرف الآسيوي تماماً، حتى صار “ينقّط” الاحترام. وبينما قد كان قبل دقائق فقط لا يكاد يلتفت إلى صاحبنا، أصبح الآن يعيره الانتباه الكامل، معلناً أن الصُور ستكون جاهزةً على الفور (أي حرفياً فورية) بدل من بعد عشرين دقيقة كما كان قد نوّه سابقاً. وطلب من صديقي باحترام بالغ: اجلس سيدي، هل تريد صُوراً للجواز سيدي، أرجوك أن تستقيم في جلستك لكي ألتقط صورتك، سير. وبعد أن حمّل الصور على الحاسوب، سمح لصديقي أن يختار الصورة المناسبة للطبع. وفي تلك اللحظة، دخل المتجر رجلين من الجنسية النيبالية، عريضي المنكبين، لابسين نحلتهم المعتادة من القبعات، والنظارات الشمسية، وسماعات الأذن، والهواتف النقالة. وحينما طلبوا الخدمة من البائع بطريقة مستعجلة ومتسرعة بعض الشيء، رد عليهم بحزم بأن عليهم أن ينتظروا دورهم، لأنها كان يجهّر صُور السيد. “لازم يعطي صورة بسرعة”، شرح لهم باللغة الهندية وبلغة تشبهها. وأخيراً، حينما كان قد أودع الصور الفوتوغرافية في ظرف ورقي صغير كما هي العادة (أي، ظُرَيف)، سلم صديقي المبلغ المطلوب، شكر مقيم المتجر، وغادر (قال لي صديقي أن السعر كان مبالغاً فيه بعض الشيء. يبدو أن حُسن المعاملة لدى البائع لم تصل إلى حد إعطاء تخفيض.)
فيما بعد حينما روى لي محدثي الحكاية، ضحكنا كثيراً عندما ذكر أن البائع حسّن معاملته عند سماعه للكنة جيدة. فمن العادة أن اللكنات الجيدة وغير المتذبذبة تدل على إقامة طويل في الخارج أو كميات كبيرة من الوقت والمال الذي أُنفق على التعليم الجيد. ولكن من ناحية أخرى، قد تكون هكذا لكنات لا تدل سوى على تعليم باهض، فلا يمكن أبداً الحُكم على شخصية المرء من ألفاظه. هل يخطئ الناس في تكوين الأفكار المُسبقة عن شخص ما اعتماداً فقط على لكنته؟ خصوصاً حينما تشكّل هذه الأحكام الفرق بين الخدمة المحترمة والإهمال من قِبل البائعين؟ وماذا نقول في التراتبيات التي يحملها البعض في أذهانهم، والتي تصنف الأعراق إلى “أفضل” و”أسوء”، والتي على أساسها يقدم التقدير أو يُسحب؟ وفي حالة هذا البائع، قد يكون من الشيّق توجيه هذا السؤال له: على أي طبقة من الاحترام، على أي درجة في القيمة الإنسانية، ستضع نفسك عليها، أو ستضع عرقيتك عليها؟ أظن أن تصرفاته كانت تنبع في أغلبيتها من اللاوعي، ولو وجهت إليه هذا السؤال لاستنكر وقاوم، ولكان أدعى أن الجميع سواسية.
Categories
- Art (2)
- Elia's Discourses (7)
- Esperanto (2)
- My articles (33)
- Poetry (15)
- Uncategorized (1)
Archives
- September 2023
- June 2023
- April 2023
- March 2023
- February 2023
- January 2023
- December 2020
- November 2020
- June 2012
- October 2011
- September 2011
- April 2011
- December 2010
- November 2010
- July 2010
- June 2010
- April 2010
- March 2010
- February 2010
- January 2010
- December 2009
- November 2009
- October 2009
- September 2009
- August 2009